وقال آخرون :« افْتَعَل » يدلُّ على شدَّة الكلفة، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه.
وقال الواحديُّ :« الصَّحيح عند أهل اللغة : أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما.
وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [ المدثر : ٣٨ ]. وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] وقال تعالى :﴿ بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ [ البقرة : ٨١ ]، وقال تعالى :﴿ بِغَيْرِ مَا اكتسبوا ﴾ [ الأحزاب : ٥٨ ] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ »
.
قال ذو الرُّمَّة :[ البسيط ]

١٣٠٩-............................ أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
وإنما أَتَى في الكسب باللام، وفي الاكتساب ب « عَلَى » ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك، والخير يحبُّ ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولمَّا كان الشرُّ يحذر، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب « عَلَى » المقتضية لاستعلائه عليه.
وقال بعضهم :« فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد »، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين، وهو الأظهر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا : لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى، لبطلت هذه الإضافة، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه، وطولهن وشكله، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة.
قال القاضي : لو كان تعالى خالقاً أفعالهم، فما فائدة التَّكليف، والكلام فيه معلوم.

فصل


احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت، وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر.
قال الجبَّائي : ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق، إلاَّ أنَّه مشروطٌ، والتَّقدير : لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً، والجمع بينهما محالٌ في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ.

فصل


تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله :﴿ مَا كَسَبَتْ ﴾ تدلُّ على ثبوت الاختصاص، ويؤكِّد ذلك قوله - ﷺ - :« كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ »، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :
منها : أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ.


الصفحة التالية
Icon