[ الزمر : ٦٥ ]، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين، ولا على جواز الشِّرك.
وأجاب مخالفوهم : بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين :
الأول : أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً، فتكون تكراراً محضاً، وهو غير جائزٍ.
والثاني : أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله :﴿ وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة.
وأمَّا الوجه الثاني : فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف، قال تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] إلى قوله :﴿ وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ]، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف، إِلاَّ أنَّ قوله :﴿ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ عامٌّ في العذاب والتَّكليف، فوجب إجراؤه على ظاهره، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ، فلا يجوز.
وأَمَّا الوجه الثالث : فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين.
وإذا كان هذا هو الأصل، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ.
قوله :﴿ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ ﴾ قال ابن الخطيب : لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ، المطلوب بها الترك، قُرِنت بلفظ « رَبَّنَا »، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ « رَبَّنَا » وظاهره يدلُّ على طلب الفعل.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ « رَبَّنَا ».
فالجواب : أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى -.
فإن قيل : ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة.
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول : أطلُبُ منك العفو، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، فلما تخلَّص من هذين العذابين، أقبل على طلب الثَّواب، فقال :﴿ وارحمنآ ﴾ فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك.
قوله تعالى :﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ، أي : صاحبُ تَولِّينا، أي : نُصرتنا، ولذلك قال :﴿ فانصرنا ﴾، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً، واسم زمانٍ.
في قوله :﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل، والخُضوع، فلا جرم ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال


الصفحة التالية
Icon