﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم. وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

فصل


قال أنسٌ : حُرمت عليهم الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر.
وقال أنس بن مالك : ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً، وفلاناً، إذ جاء رجلٌ فقال : حرمت الخمر. قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال : فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل.
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ : هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها، ويُفَسَّقُ، ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها، كالحنطة، والشَّعير، والذُّرة، والعسل، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم، وقال : إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب، حتّى ذهب نصفه، فهو حلالٌ، ولكنه يكره، وإن طبخ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا : هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ.
وقال قومٌ : إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ، صار حَلاَلاً، وهو قول إسماعيل بن عليه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه، وقد تقدَّم ما أجابوا به.
والمَيْسِرُ : القِمَارُ، مفعل من اليُسْرِ، يقال : يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة :[ البسيط ]
١٠٦٨- لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وقال آخر :[ الطويل ]
١٠٦٩- أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ
وفي اشتقاقه أربعة أقوال :
أحدها : من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل.
والثاني : من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره.
قال ابن عباسٌ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله، وماله، فنزلت الآية.
الثالث : قال الواحديُّ : إنه من قولهم : يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً، إذا وجب، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ. وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس، ورد ابن عطيَّة عليه.
الرابع : من يسر إذا جزر، واليَاسِرُ الجَازِرُ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطيَّة : وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ « واليَسَرُ : الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح، ويجمع على أيسار، وقيل : بل » يُسَّر « مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ.


الصفحة التالية
Icon