قال ابن كَيْسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين :
إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك.
والأخرى : أنه آية للنبي ﷺ.
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون لها محل، وفيه - حينئذ - وجهانِ :
أحدهما : النصب على الحال من الكاف في « لَكُم » أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم.
والثاني : الجر؛ نعتاً ل « فِئَتَيْنِ » ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين، ويحتمل الجر؛ صفة ل « فِئَتَيْنِ » أيضاً، على أن تكون الواو في « يَرَوْنَهُمْ » ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة « تُرَوْنَهُمْ » - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان :
أحدهما : أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله :« رَأيَ الْعينِ ».
قال الزمخشريُّ :« رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها » ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [ بوجوه ] :
أحدها : أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل
وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.
وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [ فعلى هذا ]، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ.
الثاني : أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون « مِثْلَيهِم » مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين : أحدهما : قوله :« رأي العين ».
الثاني : أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين.
وأجيب عن [ الوجه ] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي : رأياً مثل رأي العين، أي : يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى.


الصفحة التالية
Icon