قال القرطبيُّ : فالجواب خرج على وفق السُّؤال، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل :﴿ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] قال : كم أنفق؛ فنزل « قُل العَفْوَ ».
والعَفْوُ : ما سهل، وتيسَّر وفضل، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر :[ الطويل ]
١٠٧١- خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي | وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ |
قال ابن الخطيب : ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير، والتَّسهيل، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :« عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ » معناه : التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق، ويُقال : أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه : إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة، ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً : إذا لم يكدِّره عليه بالأذى، ويقال : خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك، أي : ما تيسَّر، ومنه قوله تعالى :﴿ خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ] وجملة التأويل : أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق، فقال :﴿ وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين ﴾ [ الإسراء : ٢٦، ٢٧ ] وقال :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] وقال :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام :« خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ ».
وعن جابر بن عبدالله قال : بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله؛ خذها صدقةً، فوالله ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله ﷺ ثم أتاه من بين يديه، فقال : هاتها مغضباً؛ فأخذها منه، ثمَّ حذفه بها، لو أصابته لأوجعته ثم قال :« يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى، خُذْهَا، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها ». وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ.
وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط.
وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار.
فصل في ورد العفو في القرآن
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « العَفْوِ » في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : العفو : الفضل من الأموال قال تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ﴾ يعني الفضل من المال.
الثاني :« العفو » الترك؛ قال تعالى :﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] أي يتركوا، ومثله :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، أي : ترك مظلمته.
الثالث : العفو بعينه، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ].
فصل
واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب، أو التطوُّع على قولين :
الأول : قال أبو مسلم : يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم، ما يكفيهم في عامهم، ثمَّ ينفقون الباقي، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة.