واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام.
و « الأسْحَار » جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟
فقال الزّجّاج وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه-.
قال زُهَيْر :[ الطويل ]
١٣٦٤ - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ | فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ |
والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر.
قال الشاعر :[ المتقارب ]
١٣٦٥ - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا | إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ |
قال :[ المتقارب ]
١٣٦٦ - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً | فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ |
وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه.
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - :« مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري » سُمِّي بذلك لخفائه.
و « سَحَر » فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -.
فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء.
وقال الزمخشريُّ :« الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ».
قال ابو حيّان :« ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال ».
قال شهاب الدين :« قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب ».
والباء في قوله :« بِالأسْحَارِ » بمعنى « في ».