فقال : إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ، ولكن أنتزعهنَّ منكما.
وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال : الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك، فالإشكال عنه ساقطٌ، ومن سلَّم ذلك، قال إنَّ قوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥ ] أخص من هذه الآية، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً، ثم زالت كان قوله :« والمُحْصَنَاتُ » ناسخاً، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه.
وقولهم : إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة.
قلنا : الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة، والمسكنة، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة.
وقولهم : تعارضت آية التَّحريم، وآية التَّحليل. قلنا : آية التَّحليل خاصَّة، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم، بخلاف الآيتين، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ، وأعمُّ من وجهٍ آخر، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح.
وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله :« فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه » فجوابه : أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟
أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر، فقد نقلنا عنه أنَّه قال : ليس بحرامٍ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما، وسلم باقي الأدلَّة.

فصل في نكاح الكتابيَّات


قال القرطبيُّ : وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً، فلا يحلُّ.
وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال : لا تحلُّ، وتلا قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] قال الرَّاوي : تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ، فأعجبه.

فصل


نقل عن الحسن أنَّه قال : هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات.
قال بعض العلماء : إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع، كانت هذه الآية ناسخةٌ.
قوله :﴿ حتى يُؤْمِنَّ ﴾ « حَتَّى » بمعنى :« إلى » فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أَنْ »، أي : إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل : يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.

فصل في بيان قوله تعالى ﴿ حتى يُؤْمِنَّ ﴾


اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله ﴿ حتى يُؤْمِنَّ ﴾ الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام الإسلام، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار، وأُجيبوا بوجوهً :
منها : قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon