قوله :« لِيَحْكُمَ » هذا القول متعلقٌ بقوله :« أَنْزَلَ » : واللامُ لِلْعله، وفي الفاعل المضمر في « لِيَحْكُمْ » ثلاثةُ أقوال :
أحدها : وهو أظهرها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى : لتقدُّمه في قوله :« فَبَعَثَ اللَّهُ » ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي « لِنَحْكُمَ » بنون العظمة، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل هذه القراءة عنه، وقال : إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري :« لِيُحْكَمَ » على بناءِ الفعل للمفعول وفي « النُّورِ » موضعين هنا، وفي « آل عمران » ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان.
والثاني : أنه يعودُ على « الكِتاب » أي : ليحْكُم الكتابُ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى :﴿ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ].
وقوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله :[ الكامل ]
١٠٣٧ - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا | وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ |
و « بَيْنَ » مُتَعلِّقٌ ب « يَحْكُمْ ». والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك « فِيما اخْتَلَفُوا » مُتعلقٌ به أيضاً. و « مَا » موصولةٌ، والمرادُ بها الدِّينُ، أي : ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب « ما » النبيُّ - ﷺ -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً. و « فِيهِ » متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفُوا »، والضميرُ عائدٌ على « ما » الموصولة.
قوله :﴿ وَمَا اختلف فِيهِ ﴾ الضميرُ في « فِيهِ » أوجهٌ.
أظهرها : أنه عائدٌ على « ما » الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في « أُوتُوهُ » وقيل : يعودان على الكتاب، أي : وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب. وقيل : يعودان على النبيِّ، قال الزَّجَّاجُ : أي : وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته. وقيل : يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه.
وقيل : الهاءُ في « فِيهِ » تعود على « الحقِّ » وفي « أوتُوه » تعود على « الكتاب » أي : وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب.
فصل
والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين :
أحدهما : تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود :﴿ وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ ﴾ [ البقرة : ١١٣ ] أو قولهم ﴿ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾