قال الأصمُّ والزَّجَّاج : فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ، ولا معتكفاتٍ، ولا محرماتٍ.
وقال محمَّد بن الحنفيَّة : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور. والأقرب : قول ابن عباس، ومن تابعة؛ لأن لفظة « حَيْثُ » حقيقة في الكلِّ، مجاز في غيرها.

فصل


قال أبو العبَّاس المقري : ترد « مِنْ » بمعنى « في » كهذه الآية، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ نوح : ٤ ]، وقوله :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين ﴾ [ الشورى : ١٣ ] أي : الدِّين، وقوله :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]، أي الملك. وبمعنى « البَاءِ » ؛ قال تعالى :﴿ يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ] أي : بأمره، وقوله :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ الرعد : ١١ ]، أي : بأمر الله، وقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات ﴾ [ النبأ : ١٤ ]، أي : بالمعصرات، وبمعنى « عَلَى » ؛ قال تعالى :﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم ﴾ [ الأنبياء : ٧٧ ]، أي : على القوم.
قال القرطبيُّ : عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان.
قوله :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين ﴾ التَّوَّاب : هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً، وقد يقال : هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة.
فإن قيل : ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً، لا تجب منه التَّوبة.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير.
والثاني : قال أبو مسلمٍ : التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ.
واعترضه القاضي : بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي، والتَّرك في الحاضر، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ.
ولأبي مسلم أن يجيب : بأنّ مرادي من هذا الجواب، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة، فقد صحَّ اللَّفظ، وإن تعذَّر ذلك، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة.
قوله :﴿ وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ فيه وجوه :
أحدها : المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي، قاله مجاهد.
فإن قيل : كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟
فالجواب : قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى :﴿ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات ﴾ [ فاطر : ٣٢ ]، قاله القرطبي.
الثاني : قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ :« يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ ».
الثالث : قال مقاتل بن حيَّان : يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب، والمتطهِّرين من الشِّرك.
الرابع : قال سعيد بن جبير : التَّوَّابين من الشِّرك، والمتطهِّرين من الذُّنوب.
الخامس : أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال :﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾.
قال بعضهم : وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم لوطٍ :﴿ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٨٢ ]، فكان قوله :﴿ وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ ترك الإتيان في الأدبار.
السادس : أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾، فلا حرم مدح التَّطهير، فقال :﴿ وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى - :﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ]، قيل في التَّفسير : إنهم كانوا يستنجون بالماء، وكرَّر قوله « يُحِبُّ » ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة، فتختلف المحبَّة.


الصفحة التالية
Icon