قوله تعالى :﴿ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و « مَا » يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.
والثاني : أنها بمعنى « الذي »، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي : كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى « الَّذِي » أكثرُ منها مصدريةً.
والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره : ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه.

فصل


قوله :﴿ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾، أي : عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين، وكَسبُ القَلْب : العقدُ والنِّيَّة.
وقال زيد بن أسلم في قوله :« وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » هو في الرَّجل يقول : هو مشركٌ إن فعل أي : هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه.
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاته، فاليمين باللهِ أَنْ يقول : والَّذي أعبده، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده، ونحو ذلك.
واليمين بأسمائه؛ كقوله : واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه.
واليمين بصفاته؛ كقوله : وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ، ونحوها.
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث، وجبت عليه الكفَّارة، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ، عالماً كان أو جاهلاً.
وقال أصحاب الرَّأي : إِنْ كان عالِماً، فهو كبيرةٌ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر، وإِنْ كان جاهلاً، فهو يمين اللَّغو عندهم.
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال :« لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب، وقال في آيةِ المائدة :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ﴾ [ المائدة : ٨٩ ]، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ، فلما ذكر ههنا قوله :﴿ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المُؤاخذة، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ]، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به، فالكفَّارة واجبةٌ فيها، ويمين الغموس كذلك، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها.

فصل في كراهية الحلف بغير الله


ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال : والكعبة، وبيت اللهِ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ : وأخشى أن تكون معصية.


الصفحة التالية
Icon