قال بعض المُحقِّقين :« وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة، ضعيفٌ؛ وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب » إلاَّ «، فَأَشْبَهَ العطف، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ ».
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ، وما قال الناسُ فيه، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وقع بعدَ « إلاَّ » الفاعلُ، وهو « الَّذِينَ »، والجارُّ والمَجرُور، وهو « مِنْ بعد »، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ، وهو « بَغياً » فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى : وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً. وإذا كان التقديرُ كذلك، فقد استُثْنِي ب « إلاَّ » شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟
قوله :« بَغْياً » في نصبه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعولٌ من أجله، لاستكمال الشُّرُوط، وهو علةٌ باعثةٌ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعلِّقُ به « فِيهِ »، و « اخْتَلَفَ » الملفوظُ به عند من يرى أنَّ « إلاَّ » يُستثنى بها شيئان.
والثاني : أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ، أي : باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ. و « بينهم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل « بَغْياً » أي : بَغْياً كائناً بينهم.
فصل
قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ﴾ يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون : كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة، وإلاَّ وقع الدور.
وقال بعض المفسرين : المراد « بالبيناتِ » صفة محمد - ﷺ - في كتبهم.
قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق « لِما » متعلِّقٌ ب « هَدَى » و « ما » موصولةً ومعنى هذا أي : أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى :﴿ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ [ المجادلة : ٣ ]، أي : إلى ما قالوا. ويقال : هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في « اخْتلفُوا » عائدٌ على « الذين أُوتُوه » وفي « فِيهِ » عائدٌ على « ما »، وهو متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفَ ».
و « مِن الحَقِّ » مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من « ما » في « لمِا » و « مِنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك، تقديره : الذي هو الحقّ.