وقال عليٌّ، وعمر، وابن مسعود : هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق، وأحمد في رواية - رضي الله عنهم -. وفائدة الخلاف : أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة، انقضت عدَّتها، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة، انقضت عدَّتها. وعند أبي حنيفة : ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض، لا يحكم بانقضاء عدَّتها، ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض، تنقضي عدَّتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقلِّ الحيض، لم تنقض عدَّتها. وحجَّة الشَّافعي من وجوه : أولها : قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] أي : في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ]، أي : في يوم القيامة، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض.
أجاب صاحب « الكَشَّاف » بأن معنى الآية : مستقبلات لعدَّتهن كما يقال : لثلاث بقين من الشَّهر، يريد : مستقبلاً لثلاث.
قال ابن الخطيب : وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رضي الله عنه - لأن قوله :« لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ » معناه : لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة، وهو المطلوب.
وثانيها : روي عن عائشة - رضي الله عنها -؛ أنها قالت :« هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ ».
قال الشَّافعي : والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء.
وثالثها : وهو ما تقدَّم من أن « القرْءَ » عبارةٌ عن الجمع، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن.
فإن قيل : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم.
قلنا : لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم، بل ينفصل قطرةً قطرةً، وأمَّا وقت الطُّهر، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة.
ورابعها : أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض، وإذا كان كذلك، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع.