وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب، فطبخ عيسى ﷺ جُبًّا واحداً، وجعل الجميع فيه، وقال : كوني بإذن الله كما أريد، فرجع الصباغ، وسأله، فأخبره بما فعل، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ، قال : قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أحمر، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به، وهم الحواريُّونَ.
قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السَّمكِ، وبعضهم من القصَّارين، وبعضهم من الصبَّاغين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه، والمخلصين في محبته وطاعته.
قوله :﴿ قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله ﴾ أي : أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ. ﴿ آمَنَّا بالله ﴾ هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله، والذَّبَّ عن أوليائه، والمحاربة لأعدائه، ثم قالوا :﴿ واشهد ﴾ يا عيسى ﴿ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك.
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله، وقالوا :﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول ﴾ عيسى ﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
وقال عطاء : مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام-.
قال ابن عباس : مع محمد وأمته، قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم ﴾ [ آل عمران : ١٨ ]. قوله :﴿ مَعَ الشاهدين ﴾ حال من مفعول ﴿ فاكتبنا ﴾ وفي الكلام حذف، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ من باب المقابلة، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله :﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال : مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع، والمكر : خَدَالةُ الساق، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا : واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي : ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن.