الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء، قال تعالى ﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [ الشهوات ] والغضب والأخلاق الذميمة-.
خامسها : أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده.
وسادسها : إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها : أن التوفِّي هو القبض، يقال : فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان درامي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله :﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ تكراراً، فالجواب : أن قوله ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال :﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً.
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف، أي : متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك، ورافعك إليَّ، أي : ورافع عملك إليّ، كقوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ ﴾ [ فاطر : ١٠ ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ ».
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ في نزول عيسى :« وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ».
وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال : نعم، قوله :﴿ وَكَهْلاً ﴾ وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه :﴿ وَكَهْلاً ﴾ بعد نزوله من السماء.
فصل
قال القرطبيُّ :« والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس ».
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.