وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه، ومتولّي أمره، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم، وبشأنه أعْنَى، كقوله :﴿ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا ﴾ [ التحريم : ٦ ] وفي الحديث :« ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ ».
قوله :﴿ فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ ﴾ في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما - وهو الأظهر- : أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف؛ لأن « أمَّا » لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال : لئلا يَلِيَ « أمَّا » فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ.
وقد قرئ شاذًّا ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] بنصب « ثمود » واستضعافها الناس.

فصل


عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾.
فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
فالجوابُ : أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام -، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم.
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه.


الصفحة التالية
Icon