قوله :« نَتْلُوهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
والثاني : أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية.
و « من » فيها وجهانِ :
أظهرهما : أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك.
والثاني : أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به.
قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير « من » البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ].
والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من « فاعل ». ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى « مُفْعَل » أي : مُحْكَم، كقوله :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ [ هود : ١ ] إلا أن « فعيل » بمعنى « مُفْعَل » قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله :« نَتْلُوه » التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله :﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾ - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله :﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾ جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ.
فصل
التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله :﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى ﴾ [ القصص : ٣ ]، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ.
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.
وقيل : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك.