ويجوز أن يكون ﴿ فَيَكُونُ ﴾ بمعنى :« فكان » وعلى هذا أكثر المفسِّرين، والنحويين، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه.
فصل
أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله ﷺ ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال :« ومَا أقُولُ » ؟ قالوا : تقول : إنه عَبْدٌ، قَالَ :« أجلْ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ »، فغَضِبُوا، وقالوا : هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال « إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ » كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله، فَقَالَ :« إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ »، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس.
فصل
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول، وهو مُحَالٌ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم.
لقوله :﴿ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً :
أحدها : أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية.
الثاني : أنه مخلوق من الماء، قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً ﴾ [ الفرقان : ٥٤ ].
الثالث : أنه مخلوق من الطين، [ قال تعالى :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ﴾ ] [ السجدة : ٧ ].
رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ].
خامسها : أنه مخلوق من طين لازبٍ، قال تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ [ الصافات : ١١ ].
سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون.
سابعها : أنه [ خلق ] من عَجَلٍ.
ثامنها : قال تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ ﴾ [ البلد : ٤ ].
قال الحكماء : إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ :
الأول : ليكون متواضعاً.
الثاني : ليكون سَتَّاراً.
الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ﴾ [ البقرة : ٣٠ ].
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ، وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام، وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحر، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج.