فقال النصرانيُّ : أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول : إنه كان إلهاً. فقلتُ له : الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ، ويدلُ عليهِ وجوه :
الأول : أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.
الثاني : أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، و كان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟
الثالث : أن يقال : إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال : إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة : أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني :- وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ.