وثانيهما : أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيلَ : لم لا يجوز أن يُقال : إنهم كانوا شاكِّين، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟
فالجوابُ : أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول ﷺ ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك.
الثاني : أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى.

فصل


قال ابنُ الْخَطِيبِ : كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليًّا - رضي الله عنه - أفضل من جميع الأنبياء - سوى محمَّد ﷺ - قال : والذي يدل على ذلك قوله :﴿ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾، وليس المراد بقوله :﴿ وَأَنفُسَنَا ﴾ نفس محمد ﷺ ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ﷺ ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ، فالمراد : أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً ﷺ كان نبياً، وما كان عَلِيٌّ كذلك، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال : ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله ﷺ :« من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه، وَمُوسَى في هَيْبَتِه، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ ».
فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ﷺ.
أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة.


الصفحة التالية
Icon