فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا.
ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى، ثم زمان محمد ﷺ نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد ﷺ موافقاً لشرع إبراهيم، جاز إطلاق الموافقة عليه، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة.
قوله :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ ﴾، « إبْراهِيم » متعلِّق به « أوْلَى » و « أوْلَى » أفعل تفضيل، من الولي، وهو القُرْب، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به، وأخصهم، فألفه منقلبة عن ياء، لكون فائه واواً، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء، لأن فاءَه واوٌ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه، هل هي واو - أيضاً - أو ياء.
﴿ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾ خبر « إن » و ﴿ وهذا النبي ﴾ نَسَق على الموصول، وكذلك :﴿ والذين آمَنُواْ ﴾، والنبيُّ ﷺ والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً، وتكريماً، فهو من باب قوله تعالى :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ].
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ :﴿ وهذا النبي ﴾ - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول ﴿ اتَّبَعُوهُ ﴾ فيكون النبي ﷺ قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ، ويكون قوله :﴿ والذين آمَنُواْ ﴾ نَسًقاً على قوله :﴿ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾.
والجر نَسَقاً على « إبْرَاهِيمَ » أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في « اتَّبَعُوهُ » فيُقَال : اتبعوهما، اللهم إلا أن يقال : هو من باب :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ]، ثم قال :﴿ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ
فصل
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي ﷺ إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي ﷺ إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد ﷺ - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ.