الثاني : المجاز.
قال ابن عباس : المرادَ من هذا القيام، الإلحاح، والخصومة، والتقاضي، والمطالبة، قال ابن قُتَيْبَة : أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه، والتارك له يَبُْد عنه، بدليل قوله تعالى :﴿ مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ] أي : عاملة بأمر الله، غير تاركة.
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر : قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال : أبو علي الفارسي : القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات، كما ذكرناه في قوله تعالى :﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة ﴾ [ النمل : ٣ ] ومنه قوله :﴿ دِينًا قَيِّمًا ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ]، أي : دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية : دائماً، ثابتاً في مطالبتك.

فصل


دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين : أهل أمانة، وأهل خيانة.
فقيل : اهل الأمانة هم الذين أسلموا، وأهل الخيانة : هم الذين لم يُسْلِموا.
وقيل : أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة : هم اليهود.
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ يعني عبد الله بن سلام، [ أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب، فأداه. ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ يعني : فنحاص بن عازوراء ]، استودعه رجل من قريش ديناراً، فخانه.

فصل


يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة، وعلى المبايعة، وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار، فيؤديه إليك، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام.
قوله :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾ ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً :
أحدها : أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم، فلذلك يقولون : يحل لنا قتل المخالف، وأخذ ماله بأي طريق كان، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال ﷺ :« كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ، إلاَّ الأمَانَةَ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ ».
الثاني : أن اليهود قالوا :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا، إذا أكلنا أموال عبيدنا.
الثالث : قال القرطبيُّ : قالت اليهود : إن الأموال كانت كلُّها لنا، فما في أيدي العرب منها، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.
الرابع : قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ : إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً، وليس لكل من خالفهم.


الصفحة التالية
Icon