والضمير في ﴿ لِتَحْسَبُوهُ ﴾ يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ، دل عليه المعنى، والأصل : يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ ﴾ [ النور : ٤٠ ] ثم قال :﴿ يَغْشَاهُ ﴾ [ النور : ٤٠ ] يعود على « ذِي » المحذوفة. و « من الكتاب » هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ « ليحسبوه » - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة.
قال ابن الخطيبِ :« لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة. والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون - في المدح- : خطيب مِصْقَع، وفي الذم : مِكْثَارٌ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله :﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب ﴾ أي : بقراءة ذلك الكتاب الباطل ».
فصل
قال القفَّالُ : معنى قوله :﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ﴾ أن يعمدوا إلى اللفظة، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى، وهذا كثيرٌ في لسان العرب، فلا يبعد مثله في العبرانية، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد ﷺ في التوراة.
وروي عن ابنِ عباسٍ قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد ﷺ وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد ﷺ ثم قالوا : هذا من عند الله.
فصل
قال جمهور المفسّرين : هذا النفر هم : كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. ﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ﴾ يعطفونها بالتحريف والتغيير، وهو ما غيّروا من صفة النبي ﷺ وآية الرجم، وغير ذلك. ﴿ لِتَحْسَبُوهُ ﴾ أي : لتظنوا ما حرفوا ﴿ مِنَ الكتاب ﴾ الذي أنزله الله - تعالى - ﴿ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّهم الكاذبون.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
فإن قيل : كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً.