الرابع : أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ، ثم الحذف، إلا أن « من » ليست زائدة، بل هي تعليلية، قال الزمخشريُّ :« ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى ».
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة « من » ولوضوح معناه.
وقرأ نافع « آتيناكم » بضمير المعظم نفسه، كقوله :﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ [ الإسراء : ٥٥ ] وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكم ﴾ [ مريم : ١٢ ]، والباقون :« آتيتكم » - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله ﴾ و ﴿ جَآءَكُمْ ﴾ و ﴿ إِصْرِي ﴾.
وفي قوله :« آتيتكم » و « آتيناكم » على كلتا القراءتين - التفاتان :
الأول : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله :« آتينا » أو « آتيت » لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله ﴾.
والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله :« آتيناكم » لأنه قد تقدمه اسم ظاهر، وهو ﴿ النبيين ﴾ إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم، وإنما يسمى حكاية الحال، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن، ولأفعلن، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. وأصل :﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن، فالنون الأولى علامة الرفع، و المشدَّدة بعدها للتوكيد، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى - بحذفها - ساكنان، فحذفت الواو، لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله « مُصَدِّقاً » نصب على الحال من النكرة، وقد قاسَه سيبويه، وإن كان املشهور عنه خلافه، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد ﷺ واللام في « لَمَا » - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو « مصدِّق » - والأصل مصدق ما معكم.

فصل


قال بعضُ العلماءِ : في الآية إضمار آخرَ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف « لتبلغن » لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً، ثم قال بعده :﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ وهو محمد ﷺ ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، ولا يحتاج إلى تكلُّف، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى.


الصفحة التالية
Icon