الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر، قال ابو البقاء :« لأن » أسْلَمَ « بمعنى انقاد، وأطاع » وتابعه أبو حيان على هذا.
وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في « طَوْعاً » لموافقته معنى الفعل قبله، وأما « كَرْهاً »، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل، غير نافع هنا.
ويقال يطاع يطوع، وأطاع يُطيع بمعنى، قاله ابن السِّكيتِ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له، وأطاعه، أي : رضي لأمره، وطاوعه، أي : وافقه.
قرأ الأعمش :« وَكُرْهاً » - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء.
قال الحسنُ : أسلم من في السموات طوعاً، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي.
وقال مجاهد :« طوعاً » المؤمن، و « كرْهاً » ظل الكافر، بدليل قوله :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال ﴾ [ الرعد : ١٥ ].
وقيل هذا يوم الميثاق، حين قال :﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] فقال بعضهم طوعاً، وبعضهم كرهاً.
قال قتادة : المؤمن أسلم طوعاً فنفعه، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس، فلم ينفعه، قال تعالى :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ].
قال الشعبي : وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم، كقوله :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ].
قال الكلبيُّ :« طَوْعاً » الذي وُلِد في الإسلام « وَكَرْهاً » الذين أجْبِروا على الإسلام.
قال ابن الخطيب : كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه. وأما الكافرون، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره.
وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً، بدليل قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً، فلا محل لها، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله :﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ ﴾ فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى : أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه.
قرأ حفص - عن عاصم - « يُرْجَعُونَ » بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً :
أحدها : أن يعود الضمير على ﴿ مَنْ أَسْلَمَ ﴾.
الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « يَبْغُونَ » في قراءة من قرأ بالغيبة، ولا التفات في هذين.
والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « تَبْغُونَ » - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ. وقرأ الباقون - « تبغون » - بالخطاب - وهو واضح، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه.
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله :﴿ مَن فِي السماوات والأرض ﴾.


الصفحة التالية
Icon