﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ [ البقرة : ١٦٠ ].
الثاني : رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير، ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي ﷺ بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ، فلما بُعثَ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً.
الثالث : نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا : هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة، وتاب، وقبل الرسولُ ﷺ توبته. قال القفال : للناس في هذه الآية قولان :
منهم من قال : إنَّ قوله تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] وما بعده إلى قوله ﴿ وأولئك هُمُ الضآلون ﴾ [ آل عمران : ٩٠ ] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله « إلا الذين تابوا » إلى « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار » على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان :
أحدهما : أنها في أهل الكتاب.
والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا.

فصل


قالت المعتزلةُ : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً :
الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ] وقوله :﴿ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [ محمد : ١٧ ] وقوله :﴿ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه ﴾ [ المائدة : ١٦ ] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى.
الثاني : أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم ﴾ [ النساء : ١٦٨-١٦٩ ] وقال :﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار ﴾ [ يونس : ٩ ].
والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال :﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه.
وقال أهل السنة : المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل : قال - في أول الآية- :﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ ﴾ وقوله في آخرها :« والله لا يهدي القوم الظالمين » يقتضي التكرار.


الصفحة التالية
Icon