وقرئ :﴿ تُنَزَّلَ التوراة ﴾ بتخفيف الزاي وتشديدها، وكلاهما بمعنى واحد، وهذا يرد قولَ من قال بأن « تنَزَّل » - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين.
فصل
لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد ﷺ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم، وهي تحتمل وجوهاً :
روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد ﷺ على إنكار النسخ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده، فحصل النسخُ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم، فعند هذا طلب الرسول ﷺ منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة، وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد ﷺ.
منها : أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه، وهم يُنْكِرُونه.
ومنها : ظهور كذبهم للناس، فيما نسبوه إلى التوراة.
ومنها : أنه ﷺ كان أمِّيًّا، لا يقرأ ولا يكتب، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى.
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم، فلست أنت على ملة إبراهيم، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه، فأجابهم النبي ﷺ على هذه الشبهة وقال : إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه، لسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده، فأنكر اليهودُ ذلك، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرهم النبي ﷺ بإحضار التوراةِ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك، وافتضحوا، فظهر كذبُهم.
الوجه الثالث : أنه - تعالى - لما أنزل قوله :﴿ وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ]، قال تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين :
أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة، وذلك يقتضي النسخ، وهم ينكرونه.