الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس، وطَلَباً لمرضاة الله، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ.

فصل


ترجم ابنُ ماجه في سننه « دواء عرقِ النساء » وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ، [ أعرابية ] تُذابُ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا ».
وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ - في عرق النسا - :« تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً، فتُخْرَجُ إهَالتُه، فتقسَّم ثلاثة أقسام، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ » قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة، فبرئوا - بإذن الله تعالى -، وروى شعبة قال : حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا، يمسح على ذلك الموضع، ويقول أقسم لك بالله الأعلى، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى.
قال شعبة : قد جرَّبته، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع.

فصل


دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي، وقال تعالى :﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ [ التحريم : ١ ].

فصل


ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى :﴿ كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ ﴾، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز

فصل


ومعنى قوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ﴾ أي : قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، أما بعد نزول التوراة، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة.
وقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها.
قال ابن عطية : إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا يأكله لي ولد، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة.
وقال الكلبي : لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم، كما قال تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، وقال :﴿ وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ.
وقال الضحاكُ : لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم، ولا حَرَّمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - تعالى - فكذبهم الله، فقال :« قُلْ » : يا محمد ﴿ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها ﴾ حتى يتبين أنه كما قلتم ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، فلم يأتوا بها، فقال - الله تعالى- :﴿ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب ﴾، « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله :« افْتَرَى » فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله :﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه.


الصفحة التالية
Icon