الثاني : أنه - تعالى - إنما ذكر هذا، لبيان فضيلةِ البيتِ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد ﷺ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء.
الرابع : ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها.
وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ، وفي صورة واحدة، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النَّصّ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك، فكان قولُنا أوْلَى.
قوله :« ولله على الناس حج البيت » لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم :« حِجّ البيت » - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل، وبَذْر وبِذْر، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ.
وقيل : المكسور اسم للعمل، والمفتوح المصدر.
وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم.
فصل
الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله ﷺ :« بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمضانَ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً ».
ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحُرِّيَّة، والاستطاعة.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى ﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ يعم المؤمنَ والكافرَ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً، ومخصِّصاً، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد ﷺ مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد ﷺ، غير حاصل، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة، غير حصل، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط.