وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه، أو أجنبي، الطاعةَ في أن يحج عنه، فهل يلزمه [ أن يأمره ] إذا كان يعتمد صدقه؟
وفي المسألة خلاف، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة، وهذا مستطيع، لأنه يقال - في العُرْف- : فلان مستطيع لبناء دارٍ، وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله، وبأعوانه-.
وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة، قال : وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها : إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه، وهذا تصريح بنفي الوجوب.
وقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه، أو المبتدأ وخبره، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله :﴿ غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾ كأنه قال : غني عنهم.

فصل


في هذا الوعيد قولان :
الأول : قال مجاهد : هلا كلام مستقلٌّ بنفسه، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه.
الثاني : قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء : مَنْ جَحَد فرض الحَج.
وقال آخرون : من ترك الحج، لقوله ﷺ :« مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا » وقوله ﷺ :« مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا ».
وقال سعيد بن جبير : إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه.
فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟
فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ، أي : قد قارب الكُفْر، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله :﴿ وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر ﴾ [ الأحزاب : ١٠ ] أي : كادت تبلغ.
وكقوله عليه السلام- :« مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر » وقوله ﷺ :« مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر ».
وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج.
قال الضحاك : لما نزلت آية « الحج »، جمع الرسولُ ﷺ أهلَ الأديان الستة : المسلمين، والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخاطبهم، وقال :« إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا : لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾.


الصفحة التالية
Icon