فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه، ومَنَعَةٍ في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ.
قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلتَ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ.
قال : فتكلَّم رسولُ الله، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - تعالى - ورَغَّبَ في الإسلام، ثم قال : أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ-.
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ، قال : فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله ﷺ - أبو الهيثم بن التَّيْهان.
فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم رسولُ الله ﷺ ثم قال :« لا، بل الأبدَ الأبدَ، الدَّمَ الدَّمَ، الهدمَ الهدمَ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ » ثم قال ﷺ :« أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ».
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ﷺ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ : يا معشرَ الخزرج، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة.


الصفحة التالية
Icon