قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٣ ]، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه، وهو لا يجوز ألبتة، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.
وقد تقدم الكلام في « أنَّ » الواقعة بعد « لَوْ » هذه، هل محلها الرفع على الابتداء، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن « لو » - هنا - مصدرية، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ « تَوَدُّ »، أي تود تباعد ما بينها وبينه، وفي ذلك إشكال، وهو دخول حرف مصدري على مثله، لكن المعنى على تسلط الوداد على « لو » وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي. والأمد : غاية الشيء ومنتهاه، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ « أفعال ».
قال الراغب :« الأمَد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا، كما يقال : زمان كذا، والفرق بين الأمد والزمان، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان ».
فصل
المعنى :﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ﴾ يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً.
قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً.
وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى :﴿ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ].
قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً.
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان، أو على المكان.
ثم قال :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ وهو تأكيد للوعيد، ثم قال :﴿ والله رَؤُوفُ بالعباد ﴾ وفيه وجوه :
الأول : أنه رؤوفٌ بهم، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذَّرهم من استحقاق غضبه.
قال الحسنُ :« ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه ».
الثاني : أنه رؤوف بالعباد، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي.
الثالث : أنه لما قال :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد، وهو قوله :﴿ والله رَؤُوفُ بالعباد ﴾، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده.
الرابع : أن لفظ « العباد » في القرآن مختص بالمؤمنين، قال تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقال :﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله ﴾ [ الإنسان : ٦ ]، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة، فقال :﴿ والله رَؤُوفُ بالعباد ﴾، أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين.