الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.
روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ أن الرسول ﷺ أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله ﷺ :« تقدم يا مصعب »، فقال الملك : لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول ﷺ أنه مَلَك أمِدَّ به.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك.
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ ﴾ مُعْتَرِضاً بين الكلامين.
وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال :﴿ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة ﴾ [ الأنفال : ٩ ]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا :﴿ بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ]، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشورط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي ﷺ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول ﷺ بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه ﷺ قال لهم :« ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ ».
الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.


الصفحة التالية
Icon