فصل


اعلم أنَّ قولَهُ :﴿ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ ﴾ حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون، وهي تحتمل وجوهاً :
الأول : أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ ﷺ في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا يخرج من المدينةِ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي ﷺ في أن يخرج إليهم، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك، فقال : عصاني وأطاع الوِلْدان، فلما كثر القتل في بني الخزرج، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له : قُتِل بنو الخَزرج!! فقال :« هل لنا من الأمر من شيء » ؟ يعني : أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من « المدينة ».
والمعنى : هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار.
الثاني : ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد ﷺ وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد ﷺ ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله : هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.
الثا ﴿ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ﴾.
وقوله :﴿ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ ﴾ قرأ أبو عمرو « كُلُّهُ » - رفعاً - وفيه وجهان :
الأول :- وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء، و « لله » خبره والجملة خبر « إنَّ » نحو : إن مال زيد كله عنده.
الثاني : أنه توكيد على المحل، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون « للهِ » خبراً لِ « إنَّ » أيضاً.
وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيداً لاسم « إنَّ » وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و « للهِ » خبر « إنَّ ».
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة « كُلّ » للتأكيد، فكانت كلفظة « أجمع ».

فصل


هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا، ملا وقع في هذه المِحْنةِ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ، وهذا [ الجواب ] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين.


الصفحة التالية
Icon