إنما ثُنّي « الْجَمْعَان » -وإن كان اسم جمع- وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين، فلما أريد به ذلك ثُنِّي، كقوله :[ الطويل ]

١٦٧٢- وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ

فصل


﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ تنهزموا ﴿ يَوْمَ التقى الجمعان ﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين، ولم يَبْقَ مع رسول الله ﷺ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً، ستةٌ من المهاجرين : أبُو بَكْرٍ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ، وطَلْحَة، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ -وسبعة من الأنصار- حباب بن المنذر وأو دُجَانَة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمَّة، وسهل بن حُنَيْف، وأسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن مُعّاذٍ- وقيل : أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين، فذكر الزبير بن العوّام معهم، وسبعةٌ من الأنصار.
وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة، والزبير، وعلي، وخمسة من الأنصار : أبو دُجَانة، والحارث بن الصِّمَّة، وحباب بن المُنْذِرِ، وعاصم بن ثابتٍ، وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد.
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله ﷺ نحو ثلاثينَ، كلهم يجيء، ويَجْثو بين يديه، ويقول : وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ.
قوله :﴿ إِنَّمَا استزلهم الشيطان ﴾ السين في ﴿ استزلهم ﴾ للطلب، والظاهر أن استفعل ها هنا -بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه، فالمعنى : حَمَلَة على الزلة، فيكون ك « اسْتَلَّ » و « أبَلَّ » واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ، قال تعالى :﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشيطان ﴾ [ البقرة : ٣٦ ].
وقال ابن قتيبةَ :﴿ استزلهم ﴾ طلب زلَّتَهُمْ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.

فصل


قال الكعبيُّ : الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ، فهو كقوله تعالى -حكاية عن موسى- :﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ [ القصص : ١٥ ] وكقوله -حكاية عن يُوسفَ- :﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقوله -حكاية عن صاحب موسى- :﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [ الكهف : ٦٣ ].
قوله :﴿ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ﴾ فيه وجهانِ :
الأول : أن الباء للإلصاق، كقولك : كتبت بالقَلَم، وقطعت بالسِّكِّين، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم، وعلى هذا التقدير اختلفوا :
فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً، ولا فراراً من الزَّحْف، رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً -كانت لهم- فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا.
وقيل : لما أذنبوا -بمفارقة المركز، أو برغبتهم في الغنيمة، أو بفشلهم عن الجهاد- أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ، وأوقعهم في الهزيمة.
الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم.


الصفحة التالية
Icon