الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي « أنثى » : أنها بدل من « ها » في ﴿ وَضَعَتْهَا ﴾ بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو :﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا ﴾ [ الأنبياء : ٣ ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر :[ الطويل ]
١٤١٧- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً | عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ |
فصل
والفائدةُ في قولها :﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى ﴾ أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر، فلم تشترط ذلك في كلامِها، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى، فقالت :﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى ﴾ خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [ أن يحتاج إلى إعلامها ].
قوله :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر « وَضَعْتُ » بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة- :« تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها ».
وقيل : قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها :« رَبِّ » لقالت : وأنت أعلم.
وقرأ الباقون :« وَضَعَتْ » بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ، وآيات واضحةٍ.