وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال : لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله ﷺ فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام -أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ- : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ.

فصل


معنى ﴿ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا ﴾ يعني : إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
وقال السُّدَّيُّ : وابنُ جُرَيْج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا -إن لم تقاتلوا معنا- لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة.
وقوله :﴿ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً ﴾ إنما لم يَأتِ -في هذه الجُمْلة- بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا -لما قيل لهم ذلك-؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و « نعلم » -وإن كان مضارعاً- معناه المُضِيّ؛ لأن « لو » تخص المضارع، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره، ونكَّر « قتالاً » للتقليل، أي : لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم :﴿ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا ﴾ فقال تعالى :﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾.
« هم » مبتدأ، و « أقرب » خبره، وهو أفعل تفضيل، و « للكفر » متعلق به، وكذلك « للإيمان ».
فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر -متحدان لفظاً ومعنىً- بعامل واحد، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر، أو بدلاً منه، فكيف تعلقا ب « أقرب » ؟
فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل، قالوا : لأنه في قوة عاملين، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو.
وقال أبو البقاء :« وجاز أن يعمل » أقرب « فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل » أطيب « في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً، في الظرفين المقدرين لأن » أفعل « يدل على معنيين -على أصل الفعلِ وزيادتهِ- فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان ».
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك، وقوله : الظرفين المقدَّرين، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه.
و « أقرب » -هنا- من القُرْب -الذي هو ضد البعدِ- ويتعدى بثلاثة حروف : اللام، و « إلى » و « من ». تقول : قربت لك ومنك إليك، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو، ف « من » الولى المعدية لأصل معنى القرب، والثانية هي الجارة للمفضول، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى « إلى ».


الصفحة التالية
Icon