الرابعُ : أنه حال من فاعل « يحزنون » و « يحزنون » عاملٌ فيه، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ، لوجهين :
أحدهما : أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ.
الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة، والحال قَيْدٌ فيه، فيفوت هذا المعنى.
فصل
والمقصودُ -من هذا الكلام- أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه، ولا يُضيعه.
قوله :« الذين استجابوا » فيه ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مبتدأ، وخبره قوله :﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره « من بعدما أصابهم القرح » وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل « من بعد » متعلقٌ ب « استجابوا ».
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي : هم الذين.
الثالث : أنه منصوب بإضمار « أعني » وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع.
الرابع : أنه بدل من « المؤمنين ».
الخامس : أنه بدلٌ من « الذين لم يلحقوا » قَالَه مَكّيٌّ.
السادسُ : أنه نعتٌ ل « المؤمنين » ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله :« الذين لم يلحقوا » قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ.
و « ما » في قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ﴾ مصدرية، و « الذين أحسنوا » خَبَرٌ مقدَّمٌ، و « منهم » فِيهِ وَجْهَان :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في « أحسنوا » وعلى هذا ف « من » تكون تبعيضية.
الثاني : أنها لبيان الجنسِ.
قال الزمخشري :« مثلها في قوله تعالى :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم ». و « أجر » مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ -إن لم يُعْرَب « الذين استجابوا » مبتدأ -وإما خبرٌ- إنْ أعربناه مبتدأ- كما تقدم تقريره.
والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات.
فصل
في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان :
أحدهما -وهو الأصح- : أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا : لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول ﷺ فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال : لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم -ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد- ونادى منادي رسولِ الله ﷺ : ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال : يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال : يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله ﷺ فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن.