قال ابنُ الخطيب : المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول ﷺ في كل ما يأمر به وينهى عنه -ثقل ذلك أو خَفَّ- لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله :﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ﴾.

فصل


هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه -سبحانه وتعالى- قَلَبَ القضية ها هنا، فأودع قلوبَ الغالبين -وهم المشركونَ- الخوفَ والرعبَ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها. ثم قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾ والمعنى : أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا :﴿ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾ قال ابن الأنْبَارِيّ :﴿ حَسْبُنَا الله ﴾ أي : كافينا الله.
ومثله قوله امرئ القيس :[ الوافر ]
١٦٩٣- فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ
أي : يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ.
وأما « الوكيل » ففيه أقوالٌ :
أحدُهَا : أنه الكفيل.
قال الشاعر :[ الطويل ]
١٦٩٤- ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
الثاني : قال الفرّاء : الوكيل : الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن « نِعْمَ » سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالقُ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول : خالقنا الله ونعم الرازقُ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي.
الثالث :« الوكيل » فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه. والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه.
ثم قال :﴿ فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ ﴾ قال مجاهدٌ : النعمة -هنا- العافية، والفَضْل : التجارة.
وقيل : النعمة : منافع الدنيا، والفَضْل : ثواب الآخرة.
قوله :﴿ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء ﴾ أي : لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ -في قول الجميع- ﴿ واتبعوا رِضْوَانَ الله ﴾ طاعة الله، وطاعة رسوله، ﴿ والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا.
روي أنهم قالوا : هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ.
واختلف أهْلُ المغازي، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب « حمراء السد » والثانية ب « بدر الصغرى ».
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح ﴾ [ آل عمران : ١٧٢ ] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح.


الصفحة التالية
Icon