وقال بعضُهُمْ عكس هذا -مزت بين الشيئين مَيْزاً، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً- وهذا هو القياس، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير، وهو لائقٌ بالمتعددات، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت : فَرَقْت :-بالتخفيف- ومنه : فرق الشعر، وإن جعلته أشياء، قلت : فرَّقْتها تَفْرِيقاً.
ورجَّح بعضُهم « مَيَّز » -بالتشديد- بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه، قالوا : التمييز، ولم يقولوا : المَيْز- يعني لم يقولوه سماعاً، وإلا فهو جائز قياساً.

فصل


ومعنى الآية : حتى يميز المنافق من المخلصِ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق، وتخلَّفوا عن رسول الله ﷺ.
فإن قيل : إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين، وإن لم يحصل الوَعْدُ.
فالجوابُ : أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ.
قال قتادة : حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ.
قال الضَّحَّاك :« مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ » في أصلاب الرَِّجَالِ، وأرحام النِّساءِ، يا معشرَ المنافقينَ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ.
وقيل :« حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
وهو الذنب »
مِنَ الطَّيِّبِ « وهو المؤمنُ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ.
وقيل : الخبيث : هو الكُفْر : أذلَّه الله وأخْمَدَه، وأعلى الإسلامَ وأظهره، فهذا هو التمييزُ.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب ﴾ ومعناه : أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ، فيقول : إنَّ فلاناً منافق، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ -كما ذكرنا- وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب، فذلك من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال :﴿ وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن، وهذا منافق، نظيره قوله تعالى :﴿ عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ [ الجن : ٢٦، ٢٧ ].
ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول، فتنشغلوا عن الرسول، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ.
قوله :»
وَلكِنَّ « هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى- لما قال :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ ﴾ أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ -فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى :﴿ وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي ﴾ أي يصطفي ﴿ مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ.
يَجْتَبِي : يصطفي ويختار، من : جَبَوْت المال والماء، وجبيتهما -لغتان- فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها.


الصفحة التالية
Icon