وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين، فقال :« فأما القراءة بالتاء- وهي قراءة حمزة- فإنه جعل المخاطب هو الفاعل، وهو النبي ﷺ و » الذِينَ « مفعول أول -على تقدير حَذْف مضاف، وإقامة المضاف إليه -الذين- مُقامه- و » هو « فصل، و » خَيْراً « مفعول ثانٍ، تقديره : ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم، ولا بد من هذا الإضمار، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء -أيضاً- مزية على القراءة بالتاء، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم » يَبْخَلُونَ « وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان » يَبْخَلونَ « وجعلْتَ ما في صلة » الذِينَ « تفسيرَ من قبل الصلة، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف ».
والميراثُ : مصدر كالميعاد، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها -وهي ساكنةٌ- لأنها من الوراثة كالميقات والميزان- من الوقت والوزن- وقرأ أبو عمرو وابن كثير « يَعْمَلُونَ » بالغيبةِ، جَرْياً على قوله :﴿ الذين يَبْخَلُونَ ﴾ -والباقون بالخطابِ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : انه التفات، فالمراد : الذين يبخلون.
الثاني : أنه رَدَّ على قوله :﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾.
فصل
الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً.
فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى : لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، لأن المالَ يزول، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم، كما قال :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة ﴾ وهذا هو المراد من قوله :﴿ وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض ﴾ قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي : يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ.
وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد ﷺ فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً، ولا شك أن العلم فَضْل من الله.
والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة ﴾ وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ.
وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ.
فصل في اختلافهم في البخل في الآيات
اختلفوا في هذا البخلِ، فقال أكثرُ العلماءِ : المراد به مَنْع الواجب، واستدلُّوا بوجوهٍ :
أحدها : أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ.