فإن قيل : إن « ظلاماً » صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من « ظالم »، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ، أي : ليس كثير الظُّلم -مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ : ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى :﴿ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ ؟ فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أن « فَعَّالاً » قد لا يُراد به [ التكثير ]، كقول طرَفة :[ الطويل ]
١٧٠٢- وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً | وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ |
الثاني : أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد -وهم كثيرون- ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر- كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع : أن يكون على النسب، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً.
وقال الراغبُ :« العبيد -إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى- أعم من العباد، ولهذا قال :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ ق : ٢٩ ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك ».
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين « عبيد » و « عباد » فقال : وجمع العَبْد -الذي هو مسترق- عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ -الذي هو العابد- عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة « ق ».
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم.