قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها، على أن كل من يرتفع قلمه، فهو الراجحُ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريَّا.
قاله محمد بن إسحاق وجماعة، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ، وجرت أقلامهم بجري الماء.
وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامُهم، فذهب بها الماء، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها.
الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ.
الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا، وعدم قدرتها على خدمة المسجد.
وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية، والقيام بشأنها.
وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار.
وقوله :﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ نبات : مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً، قاله ابنُ الأنباريّ.
وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام.
وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ.
وقال القرطبي :﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ.
قوله :﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ قرأ الكوفيون ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ - بتشديد الْعَيْنِ - « زَكَرِيَّا » - بالقصر - إلا أبا بكر، فإنه قرأه بالمد كالباقين، ولكنه ينصبه، والباقون يرفعونه.
وقرأ مجاهدٌ « فَتَقَبَّلَهَا » بسكون اللام « رَبَّهَا » منصوباً، « وأنْبَتَهَا » - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] والتخفيف وقرأ أبي :« وأكْفَلَهَا » - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً.
وقرأ عبد الله المزني « وَكَفِلَهَا » - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ -.
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما زكريا، فمن قصره، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به، وأما قراءة بقية السبعة ف « كَفِلَ » مخفف عندهم، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا.
قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها، وهو في قراءتهم ممدود، مرفوع بالفاعلية.
وأما قراءة :« أكْفَلهَا » فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا.


الصفحة التالية
Icon