[ المائدة : ١١٦ ] يقتضي الاندراج، وأيضاً فالنفس والذات واحد، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس.
فالجوابُ : أنّ المُرَادَ : المكلَّفون في دار التكليف، لقوله، عقبيها :﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ﴾ وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم.

فصل


قالت الفلاسفةُ : الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى، فيحصل الموتُ قالوا : والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى : ذائقة موت البدنِ، وبدل ذلك -أيضاً- على أنَّ النفسَ غير البدن.
قوله :﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ ﴾ « ما » كافة لِ « إن » عن العمل، قال مكيٌّ :« ولا يحسبن أن تكون » ما « بمعنى الذي، لأنه يلزم رفع » أجورُكم « ولم يقرأ به أحَدٌ، ولأنه يصير التقدير : وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء ».
يعني لو كانت « ما » موصولة لكانت اسم « إن » فيلزم -حينئذٍ- رفع « أجوركم » على أنه خبرها، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾ [ طه : ٦٩ ] ف « ما » -هنا- يجوز أن تكون بمعنى الذي، أو مصدرية، تقديره : إنَّ الذي صنعوه، أو إن صُنْعَهم، ولذلك رفع « كِيْدُ »، خبرها. وقوله : وأيضاً فإنك تفرق... ، يعني أن « يَوْمَ الْقِيَامَة » متعلق ب « تُوَفَّوْنَ » فهو من تمام الصلة -التي هي الفعل ومعموله -ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته، وهذا وإن كان من الواضحات، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم.

فصل


قال المفسّرون : أجر المؤمنِ الثوابُ، وأجرُ الكافر العقابُ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا -أجراً وجزاء- لأنها عُرْضَةٌ للفناء.
قوله :﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار ﴾ أدغم أبو عمرو الحاء في العين، قالوا : لطول الكلمة، وتكرير الحاء، دون قوله :﴿ ذُبِحَ عَلَى النصب ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقوله :﴿ المسيح عِيسَى ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها، قالوا : لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف، وهذا عكس الإدغامِ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه، والثانية : الحاء في الهاء، نحو : امدح حلالاً -بقلب الهاء حاء أيضاً- ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفَت إليه.. ومعنى الكلام، ﴿ فَمَن زُحْزِحَ ﴾ أي : نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
قوله :﴿ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ المتاع : ما يتَمَتَّع به، وينتفع [ به الناسُ - [ كالقِدْرِ ] والقصعة- ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين.
وقال الحَسَن : هو كخضرة النبات، ولعب البنات، ولا حاصل له.
وقال قتادة : هي متاع متروك : يوشك أن يضمحِلَّ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله -تعالى- ما استطاع.
وقوله :« الْغُرور » يجوز أن يكون مصدراً من قولك : غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام، ويغر عليه حتى يشتريه، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ، ومنه الحديث :« نهى عن بيع الغرر » ويجوز أن يكون جَمْعاً.
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول، أي : متاع الغُرُور، أي : المخدوع : وأصل الغَرَر : الخدع.
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.


الصفحة التالية
Icon