وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ به إذا فسَّرناه بقولنا، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة، فقال :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ وهذا الوجه أحسن في النظم.
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث، واللعب، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ.
وقوله :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ. يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر.
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ، ثم يذكر بعده الدعاء، كهذه الآيةِ.
قوله :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار ﴾ « من » شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و « تُدْخِل » مجزوم بها، و ﴿ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :
الأول : أن تكون « من » منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله :﴿ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾. وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
الثاني : أن تكون « مَنْ » مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ « إنَّ ». ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً -والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح- وخزايةً- إذا استحيا -فالفعلُ واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ : الإخزاء -في اللغو- يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده.
وقال غيره : أخزاه اللهُ : أي : أهانه.
وقال شمر : أخزاه اللهُ : أي : فضحه، وفي القرآن :﴿ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ [ هود : ٧٨ ].
وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي -في اللغة- الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ :« فَقَدْ أخْزَيْتَهُ » أي : أبلغت في إخزائه.

فصل


قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ -من أهل الصَّلاةِ- ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ [ التحريم : ٨ ] فوجب من [ مجموع هاتين ] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً.
والجواب أن قوله :﴿ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ.
وأجاب الواحديُّ في « البسيط » بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ.


الصفحة التالية
Icon