وقيل :« مِنْ » بمعنى اللامِ، أي : بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال القفَّالُ : هذا من قولكم : فرن مني، أي : عَلَى خلقي وسيرتي. قال تعالى :﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] وقال عليه السَّلامُ :« مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا » فقوله :﴿ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ أي : بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية.

فصل


ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ -كما وجد- تلاشى وفني، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ، والإضاعة : عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ، « لاَ أضِيعُ » نفي للنفي، فيكون إثباتاً، فيصير المعنى : إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم، وإذا ثبت ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً، وبمعصيته استحق عقاباً، فلا بد من وصولهما إليه -بحكم هذه الآية- والجمع بينهما مُحَالٌ، فإما أن يقدم الثواب، ثم يعاقب، وهو باطلٌ بالإجماعِ، أو يقدم العقاب، ثم ينقل إلى الثّوابِ. وهو المطلوب.
فإن قيلَ : القوم طلبوا -أولاً- غفران الذنوب، وثانياً : إعطاء الثواب، فقوله :﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى ﴾ إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب.
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله :﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ ﴾ إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن.
قال ابنُ الخطيبِ :« وعندي -في الآية- وَجْه آخر، وهو أن المراد من قوله :﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ ﴾ أي لا يضيع دُعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه ».
قوله :﴿ فالذين هَاجَرُواْ ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿ لأُكَفِّرَنَّ ﴾ جواب قسم محذوف، تقديره : والله لأكَفِّرَنَّ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ] وقولِ الشاعر :[ الكامل ]
١٧٢٣- جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً، وله أن يقول : هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ -وله نظائر.
والظاهرُ أن هذه الجُمَل -التي بعد الموصولِ- كُلَّها صِلات له، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ : المهاجرة، والقَتْل، والقتال.
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير : فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا : فيكون الخبر بقوله :﴿ لأُكَفِّرَنَّ ﴾ عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة :« وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا » ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من « قُتلوا » للتكثير، وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأولِ للمفعول، والثاني للفاعلِ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ :
الأول : أنّ الواو لا تقتضي الترتيب، كقوله :


الصفحة التالية
Icon