فإن قيل : قوله :﴿ تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾ يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا، وذلك لا يجوزُ.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال : إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل، فلما شرَّف الله بها محمَّداً ﷺ صَحّ أن يُقَالَ : إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب.
الثاني : أن يكون المراد من قوله :﴿ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾، أي : تحرمهم، ولا تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى :﴿ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ.
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام - :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [ الأعراف : ٨٨ ] وقول الأنبياء :﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط-.
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ :
إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً.
الثانية : الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا : إن محمداً فقير ﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ].
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة.
الرابعة : المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٥٤ ].
وقيل : المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء :
أحدها : كثرة المال والجاه.
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه.
الثالث : أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع.
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.
وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى.
فصل
قال الكعبيُّ : قوله :﴿ تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ ﴾، أي : بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى :