والثَّاني قاله الكلبيُّ. وبعضهم : ما فصَّلَ من الشَّرائع، وبعضهم أمر دينكم، وهي متقاربة، ويجوز في الآية وجه آخر [ حَسَنٌ ] ؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع :« يبيِّن » و « يَهدي » في « سنن الذين من قبلكم »، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم.
والسُّنَّةُ : الطَّريقَةُ؛ لأنَّ المفسّرين نقلوا أن كلَّ ما بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة.
فصل
قال بعضُ المفسَّرينَ ﴿ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ﴾ معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ.
والحقُّ أنَّ قوله :﴿ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ أي : يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ، والحسن من القبيح.
وقوله تعالى :﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أي : أن الذي بيَّن تحريمه، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [ الإسلام ] من قبلنا، أو يكون المراد منه ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ في ] بيان ما لكم فيه من المصلحة [ فإنَّ الشَّرائعَ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح ].
قوله :﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ قال القاضي : معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة، فلا جَرضمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا؛ فيريد أن يتوبَ علينا؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ، وقد يطيع فيستحقّ الثَّوابَ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الآية إشكالٌ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [ من أنَّ فعل العبدِ ] مخلوقٌ للهِ [ وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة : من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللهِ تعالى؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ ] أمَّا على الأوَّلِ [ فلانّ ] كلِّ مَا يريده الله تعالى [ فَإنَّهُ ] يحصلُ، فإذا أرَاد أن يتوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك، وأمَّا على القول الثَّاني : فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا، وفعلنا وقوله ﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ ظاهره ] مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا.
فالجوابُ أن قوله ﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل، والنَّدم والعزم من باب الإراداتِ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل؛ فإذن الإرادةُ يمتنع أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن، وهو أنَّهُ تعالى [ هو ] الذي يتوبُ علينا.
وإن قالوا : لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [ لهم فزاد هذا الإشكال واللهُ أعلم ].
فنقولُ : قوله تعالى :﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ خطابٌ مع الأمَّةِ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللهُ أعلم.
] ثم قال ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي :[ عليم ] بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم.