الجوابُ الثَّاني : قال أبُو مُسْلِمِ : جَاءَت هذه الآيةُ عقيبَ نِكَاحِ المحرَّمات، وعضل النِّسَاء، وأخذ أمْوالِ اليتامى [ وأكل المال بالباطل و ] غير ذلك فالمُرادُ إن تجتنبوا هذه الكبائرِ التي نهيناكم عنها، كَفرنَا عنكم سَيِّئاتِكُمْ [ أي : ما سلف ] من ارتكابها وإذا احْتملَ هذَا؛ لم يَتَعيَّن ما ذكرهُ المعتزِلَةُ، واعترضه القاضي بوجهين :
أحدهُمَا : أنَّ الآية عامَّة، فلا تخْصيصَ بِذَلِكَ.
الثَّانِي : أن اجتنابهم إمّا أنْ يكُونَ مع التَّوْبَة، والتَّوْبَةُ قد أزالت العقاب أو بدونها، فمن أيْنَ أنَّ اجتنابَ هذه الكبائِر، تُوجِبُ تكفيرَ تلك السَّيّئَاتِ.
والجواب عن الأوَّلِ : أنّا لا نَدْفَعُ القَطْعَ بذلك، بل نَقُولُ : هو يحتمل، فلا يَتعيَّن ما ذكرتموه.
وعن الثَّاني : أنَّ ما ذكروه لا يَقْدَحُ في الاحتمال المذكور [ هنا ].
الجوابُ الثَّانِي : أنَّ المَعَاصِي : قد تكُونُ كبيرَة بالنِّسْبَةِ إلى شيء، صغيرة بالنسبة إلى شَيْءٍ آخر، وكذلك العكسُ، فليس ثمّة ما يكونُ كبيرةً مطلقاً، إلا الكُفْر، وأنواعه [ كثيرة ]، فلمَّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكُفْرَ بأنواعِهِ، يغفر لكم ما وَرَاءَهُ، وهذا احْتِمَالٌ ظاهرٌ مُطابقٌ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ]، سقط استدلالهم بذلك.

فصل


قال القرطبِيُّ : قال الأصولِيُّونَ : لا يَجِبُ القَطْعُ بِتكْفيرِ الصَّغائِرِ باجتناب الكبائر، وإنَّمَا محمل ذلك على غلبَةٍ الظَّنِّ، وقوَّةِ الرَّجَاءِ، والمشيئة ثابتةٌ، ودلَّ على ذلك : أنا لو قَطَعْنَا لمجتنب الكبائِرِ، وممتثلِ الفرائِضِ، تكفيرَ صَغَائِرهِ قطعاً؛ لكانت لَهُ في حُكْمِ المُبَاحِ الذي يقطع بأن أتباعه عليه، وذلك نَقْضٌ لعُرَى الشَّريعة، ولا صغيرةَ عِنْدَنَا.
قال القُشَيْرِيُّ : والصَّحيحُ أنها كَبَائِر ولكن بعضُهَا أعْظُم وقعاً من بعضٍ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي.
قال القرطبي : وأيضاً مَنْ نظر إلى بعض المُخالفَةِ كما قالَ بعضهُمُ : لا تنظر إلى صغر الذَّنْبِ، ولكن انظُرْ مَنْ عَصيتَ [ فإن كان الأمْرُ كذلِكَ ] كانت الذنوب بهذه النِّسْبَةِ كُلِّها كبائر، وعلى هذا النَّحْوِ يُخَرَّجُ كلامُ القُشَيْريّ، وأبي إسْحَاقَ الإسفراييني والقاضي أبي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّب قالوا : وإنَّما يقالُ لبعضها صغيرة بالإضَافَةِ إلى ما هو أكْبرُ منها كما يقالُ : الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقُبْلَةُ المحرَّمَةُ صغيرَةٌ بالنِّسْبَة إلى الزِّنَا، ولا ذنبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ باجْتِنَابِ ذنبٍ آخر، بل كُلُّ ذنْبٍ كبيرةٌ ومرتكبُهُ في المشيئةِ، غير الكُفْرِ لقوله تعالى ﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ] قالوا : هذه الآية يردُّ إليها جميع الآيات المُطلقةُ، يزيدُ عليها قوله عليه السلام :« من اقْتطعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بيمينه فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وحرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ فقال رَجُلٌ : يا رسُولَ الله، وإنْ كَانَ شيئاً يَسِيراً فقَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنَ أراك »


الصفحة التالية
Icon