قوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ شرط، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله :﴿ فانكحوا ﴾ وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ، والعشر، ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت ﴿ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ ﴾ أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى، فقيل لهم : إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء، فانكحوا ما طاب لكم من [ النساء مثنى وثلاث ورباع من ] الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف، أي : في نكاح يتامى النساء.
فإن قيل :« فواحدة » جواب لقوله :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ﴾ فكيف يكون جواباً للأول؛ فالجواب : أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر.
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر :[ الطويل ]

١٧٣٧- فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ
أي : أيقِنُوا، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
قوله :﴿ أَلاَّ تُقْسِطُواْ ﴾ إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر، أي :« مِنْ أن لا » ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [ أو جر، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت :« فَإنْ حَذَرْتم » فهي في محل نصب ] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة.
وقرا الجمهور :« تقسطوا » بضم التاء، من أقْسَط : إذا عدل، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي : العدل.
وقرأ إبراهيم النخعي : ويحيى بن وثَّاب بفتحها من « قسط » وفيها تأويلان :
أحدهما : أن « قَسَطَ » بمعنى « جار »، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ، والثلاثي بمعنى جار، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى « أقسط » أي : أزال القسط وهو الجور، و « لا » على هذا القول زائدة ليس إلا، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٩ ].
والثاني : حكي الزجاج أن « قسط » الثلاثي يستعمل استعمال « أقسط » الرباعي، فعلى هذا تكون « لا » غير زائدة، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة.
قالوا : قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ، فبنوا « قسط » على بناء ظلم وجار وغلب.
وقال الراغب :« القِسْط » أن يأخذ قِسْطَ غيره، وذلك جَوْرٌ، وأَقْسَطَ غيره، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وذلك إنصاف، ولذلك يقال : قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ، قال تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ].
[ وقال تعالى :﴿ وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ [ الحجرات : ٩ ].
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير، قال له : ما تقول فيَّ؟ قال :« قَاسِطٌ عادِلٌ » فأعجب الحاضرون، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً، ألم تسمعوا قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon