فقالت : يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها، فقال تعالى :﴿ وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى ﴾ فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء، قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فانزل اللهُ تعالى :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء [ اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] فالمراد منه هذه الآية، وهن قوله ﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ﴾.
وقيل : لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو اكثر، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل. فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء، فقللوا عدد المنكوحات؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله، فكأنه لم يتحرّج، وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة والضحاك والسدي.
وقيل : لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، قاله مجاهد.
وقال عكرمة : هو الرجل عنده النسوة ويكون عند الأيتام، فإذا أنفق ماله على النسوة، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق مال اليتامى عليهن، فقال تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى ﴾ عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [ نكاح ] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس.

فصل


قال الواحدي والزمخشري : قوله :﴿ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾ أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ].
قال ابن الخطيب : وهذا فيه نظر؛ لأن قوله :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ ﴾ هو أمر إباحة، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم، وذلك يخرج الآية من الفائدة، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة، وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً.


الصفحة التالية
Icon